سيمبين.. أبو السينما الإفريقية

سيمبين
شريف عوض
بعد عرض أول في مهرجان
“ساندانس” دورة عام 2015 وفي مهرجان “كان” لنفس العام ثم عدة
مهرجانات دولية، تم العرض المصري الأول للفيلم الوثائقي “سيمبين” في شهر
مارس الماضي ضمن مسابقة الأفلام الوثائقية لمهرجان الأقصر للسينما الأفريقية في
دورته الخامسة فحصل هذا الفيلم المتميز على جائزة لجنة التحكيم الخاصة التي تسلمها
مخرجه “سامبا جادجيجو” ليلة ختام المهرجان. و”جادجيجو” الذي
شارك في إخراج الفيلم مع المخرج الأمريكي “جيسون سيلفرمان” هو أفضل من
يستطيع سرد مسيرة المخرج السنغالي الكبير “عثمان سيمبين” الذي رحل عنا
عام 2007. فقبل أن يلتقي “جادجيجو” بـ “سيمبين” وجها لوجه،
كان “جادجيجو” لديه خلفية كبرى عن مؤلفات “سيمبين” وأفلامه
فقد درسها وقام بتدريسها كأستاذ للدراسات الأفريقية واللغة الفرنسية في كلية
“هولويتي” بالولايات المتحدة. كما كان “جادجيجو” هو من صاحب
“سيمبين” لمدة 17 عاما في مهرجانات وجامعات حول العالم لتقديم أفلامه
وترجمة المناقشات والحوارات الإعلامية بعد عروض أفلام هذا المخرج الكبير. يشرح “جادجيجو”
في فيلمه كيف عبر “عثمان سيمبين”
الحدود الجغرافية لبلده الأصلي السنغال من خلال أفلامه السينمائية وكيف
أرخ لأفريقيا من خلال كتاباته وشخصياته فاستحق عن حق لقب “أب السينما الأفريقية”.
يبدأ الفيلم بعودة “جادجيجو” إلى بيت “سيمبين” مؤخرا واكتشافه
كتب ونسخ أفلامه وقد اقتربت من الفناء. وبأسلوب يقرب إلى الفلاشباك في الأفلام
الدرامية، يأخدنا الفيلم المصحوب بصوت “جادجيجو” في رحلة لاكتشاف حياة
“سيمبين” التي ترقى بالفعل لتقديم فيلم درامي ملحمي كبير خلفيته تاريخ
أفريقيا السياسي والاجتماعي والسينمائي.
فقد ولد “سيمبين” عام 1923 في “كازامانس”
بجنوب السنغال حيث
استقر والده صياد الأسماك تاركًا “داكار” العاصمة منذ عام
1900. عانى الابن من حياة التهميش والفقر أثناء طفولته فطرد من المدرسة الإعدادية عام
1936 بسبب عدم الانصياع إلى مدرسيه ولم يستكمل تعليمه النظامي بعدئذ كما لم يستطع
امتهان حرفة الأب لمعاناته من دوار البحر. ولكن بعد عامين، قرر الوالد أن يرسل
سيمبين ” إلى أقارب في “داكار” فاستقر وعمل هناك ميكانيكيًا
وبناءً كما استعاض عن الدراسة بقراءة القصص المصورة ومشاهدة الأفلام السينمائية
بعد ساعات العمل. ولأن “داكار” كانت تحت الحكم الفرنسي آنذاك، كان
“سيمبين” يحمل الجنسية الفرنسية مما ترتب عليه استدعاؤه للخدمة في الجيش
الفرنسي عام 1944 على غرار العديد من الأفارقة من أبناء جيله فتم إرساله إلى “النيجر”
المستعمرة آنذاك من قبل الفرنسيين” أيض
ا كي
يعمل سائقا في وحدة المشاة. وعندما انتهت الحرب العالمية الثانية، عاد “سيمبين”
إلى “داكار” عام 1946 في خضم النشاط الاجتماعي والسياسي المشحون حيث
شهدت السنغال أول إضراب للعمال استمر شهرًا كاملا فأصاب الاقتصاد الاستعماري بالشلل
كما بشر بحركات النضال في أفريقيا
.
وفي العام
التالي، سافر “سيمبين” إلى مارسيليا بفرنسا بحثا عن لقمة العيش وللتعلم
من مدرسة الحياة
على حد تعبيره فعاش هناك حتى عام 1960
(وهو العام الذي حصلت فيه السنغال على استقلالها من فرنسا). قضى “سيمبين”
هذا الفترة في قراءة كل ما يقع بين يديه من كتب فرنسية أو مترجمة إلى الفرنسية في
مختلف المجالات وذلك بعد ساعات عمله كحامل تفريغ للبضائع القادمة على السفن في
ميناء مرسيليا. لكن ذات يوم تسبب هذا العمل الشاق في كسر عموده الفقري عام 1951
فقضى “سيمبين” فترة نقاهة طويلة استغلها في القراءة ونهل المعارف حتى
عاد إلى ممارسة أعمال أقل مشقة مكنته من استكمال ثقافاته من خلال تجواله بين المكتبات
العامة والمتاحف وقاعات المسارح وحضور ندوات عن الماركسية والشيوعية في مرسيليا. وخلال
هذه الفترة، تشكل وجدان “سيمبين” كنشط سياسي فشارك في حركات احتجاجية ضد
الحرب الاستعمارية في الهند الصينية (1953) والحرب الكورية (1950-1953). كما أعرب عن
تأييده علنًا للجزائر ونضالها أجل الاستقلال عن فرنسا (1954-1962). وفي نفس الوقت،
كان “سيمبين” يساعد على محو الأمية اللغوية والثقافية للعمال الأفارقة الذين
يعيشون فوق رصيف الميناء على هامش المجتمع الفرنسي
.
تأثر “سيمبين” في تلك الفترة بالعديد من الكتاب مثل ريتشارد رايت
وإرنست همنجواي وناظم حكمت كما شعر بالأسف بسبب غياب أمثال هؤلاء عن الواقع
الأفريقي آنذاك مما أخفت أصوات الرجال والنساء تحت وطأة الاستعمار الغربي ولذلك
قرر أن يشارك في حركة التغيير السياسي والاجتماعي في أفريقيا من خلال الفن
والثقافة دون أن يطمح أن يصبح زعيما مثل “نكروما” في غانا، أو “لومومبا”
في الكونغو. بدأ “سيمبين” ابداعاته كشاعر ثم ككاتب للقصة القصيرة
وللرواية فنشرت أعماله في فرنسا قبل عودته إلى أفريقيا لكنه قرر أن يمتهن كتابة
السيناريو والإخراج السينمائي بعد عودته لقارته الأم ولبلده السنغال المستقلة
لثقته أن السينما فن أسهل للوصول إلى الأميين في قارته. لم يتخيل
“سيمبين” أن يصنع سينما للتسلية والهروب من الواقع كما تفعل
“هوليوود” بل ارتأى السينما مثل المدرسة الليلية التي تنشأ من أجل تعليم
وتثقيف الناس بلغتهم مثلما كانت جموع القبائل تلتف حول نار الخشب لتستمع إلى الحكواتي
الأفريقي. كان عمر “سيمبين” ما يقرب من الأربعين عندما قرر البحث عن منحة
دراسية لمدة عام لينجح في السفر إلى الاتحاد السوفييتي حيث التحق باستوديوهات جوركي
في موسكو تحت إشراف المخرج السوفييتي مارك دونسكوي. وفي نهاية عام 1962، عاد مرة
أخرى إلى السنغال لكن هذه المرة بكاميرا سوفيتية قديمة وبرغبة في الإخراج
السينمائي عن الدراسة التي انتهى لتوه منها. قدم “سيمبين” أول أفلامه
القصيرة “بوروم ساريت” عام 1963 عن المجتمع السنغالي بعد الاستقلال (تاريخيا،
أنجز “سيمبين “هذا الفيلم بعد 68 عاما منذ اختراع السينما و63 عاما منذ
أول عرض سينمائي للوميير في السنغال). تلا ذلك عام 1964 فيلمه القصير الثاني
“نياي” عن ذبول القيم الأخلاقية القديمة في قرية سنغالية.
وترجع أهمية أول أفلام “سيمبين”
الروائية الطويلة “فتاة سوداء” عام 1966 إلى أنه أول فيلم يضع أفريقيا
جنوب الصحراء على خريطة العالم السينمائية فهو أول فيلم يحصل على جائزة فرنسية
كبرى هي جائزة “جون فيجو” إلى جانب جائزة عربية أفريقية هي جائزة
التانيت الذهبي في مهرجان أيام قرطاج السينمائية لنفس العام. روى الفيلم الذي صور
كأنه فيلم وثائقي تأثرا بالموجة الجديدة الفرنسية، قصة الشابة السنغالية
“ديوانا” التي تنتقل إلى الريفيرا الفرنسية كي تعمل كخادمة لدى أسرة
فرنسية ثرية فتشعر أن روحها لا زالت أسيرة محتلة رغم حصول بلدها على الاستقلال. وخلفا
للإشادة العالمية بفيلمه الطويل الأول، صار “سيمبين” أول مخرج أفريقي
يتم اختياره كعضو لجنة تحكيم في مهرجان “كان” السينمائي للعام التالي
1967. استمرت مسيرة “سيمبين” كرائد للسينما الأفريقية مع أفلام مثل فيلمه
التالي “مندابي” (من أجل المال) عام 1968 الذي كتب الحوار فيه لأول مرة
بلغة أفريقية وهي لغة الولوف السائدة في السنغال وفيلم “إيميتاي”(إله
الرعد)
عام 1971 وهو فيلمه
التاريخي الأول عن التجنيد القسري للسنغاليين خلال الحرب العالمية الثانية. كتب
“سيمبين” هذا الفيلم بلغة الديولا السنغالية وأدار أحداثه في
كازامانس”
حيث ولد كما بناه دراميا عن تجربته الشخصية عندما جند أثناء الحرب العالمية. وربما
أثارت شدة هذا الفيلم في تناوله الاستعمار الفرنسي حفيظة الحكوميتين الفرنسية
والسنغالية آنذاك فتم منع عرض “إيميتاي” في السنغال بضغط من الحكومة
الفرنسية لكنه عرض في مهرجان برلين عام 1972 فحصل على جائزة قسم الملتقى وأيضا في
مهرجان موسكو 1971 فحصل على الجائزة الفضية. يعتبر هذا الفيلم أيضا الأول في
ثلاثية عن الفساد السياسي والكفاح الشعبي فجاء بعده “زالا” (اللعنة) عام
1975 وهو كوميديا عن السنغال التي استقلت سياسيا لكنها لا زالت مستعمرة اقتصاديا
تحت وطأة النفوذ الفرنسي والبنك الدولي حيث جسد الممثل “تيورنو لاي” دور
“الحاج أبو قادر” وهو سياسي يرحب بالغرب في دولته. يومها لم يكن
“سيمبين” يقصد بشخصية “الحاج” سوى رئيس السنغال “ليوبولد
سنجور” الذي حكم السنغال بين عامي (1960-1980). أما الفيلم الثالث
“سيدو” (1977) فلقد منع عرضه في السنغال لانتقاد “سيمبين” فيه
دخول الإسلام إلى قرى السنغال وتغيير هويتها الأفريقية على حد تعبيره. توقف
“سيمبين” 11 عاما عن الإخراج ليعود بفيلم “معسكر ثياروي” عام
1988 الذي كان سيرة شبه ذاتية عن الجنود الأفارقة الذي عادوا بعد الحرب العالمية
الثانية بعد أن قاتلوا في الصفوف الفرنسية لكنهم يجبرون على العيش داخل معسكر مثل
السجن دون أن يسمح لهم بأية حقوق أو مستحقات. رغم حصول هذا الفيلم على ست جوائز في
مهرجان فينيسيا 1988، فنجد أن الحكومة الفرنسية قد منعته من العرض. معلومة أخرى هامة
لا يبخل “سامبا” أن يذكرها لنا في هذا الفيلم الوثائقي أن
“سيمبين” الذي كان قد عين مديرا لصندوق السينما في السنغال آنذاك، قد
استخدم ميزانية الصندوق كلها لإنتاج فيلم “معسكر ثياروي” رغم وجود
سيناريو آخر للكاتب السنغالي “بوبكار بوريس ديوب” تناول فيه نفس
الأحداث.
قدم
“سمبين” ثلاث أفلام أخرى مهمة هي “جويلوار” (1992) و”فات
كينيه” (2001) و”مولاديه” (2004) آخر أفلامه الذي حصل عنه على
جائزة قسم “نظرة ما” بمهرجان “كان” 2004. وترجع أهمية
“مولاديه” إلى تناول “سيمبين” فيه مشكلة ختان الإناث التي لا
زالت تعاني منها العديد من الدول الأفريقية.
ينتهي الفيلم بشرح “جادجيجو”
كيف بلغه خبر وفاة “سيمبين” وهو في صالة الوصول بمطار “داكار”
حيث كان قادما لزيارته كالعادة. ونعود في المشاهد إلى نسخ أفلام
“سيمبين” فنجد أن “جادجيجو” قد بدأ مشروع ترميمها إلى جانب
شروعه في الانتهاء من كتاب عن حياة “أب السينما الأفريقية”.  

Share your love
Sherif M. Awad
Sherif M. Awad
Articles: 420